لافاً للانطباع السائد لدى كثيرين، فإنّ بعض الأفرقاء السياسيين ولا سيّما منهم المشاركين في السلطة الذين بدأوا يوغلون في مخالفة أحكام قانون الانتخاب من الآن استعداداً للانتخابات المقرّرة في 6 أيار المقبل، هم أكثر المهجوسين والخائفين من هذا القانون، الذين قبِلوا به على مضض، فيما عملوا جاهدين للإبقاء على قانون الستّين.
حالَ هؤلاء الأفرقاء الذين يمارسون حالياً الاستبداد ضدّ مرشّحين وناخبين من كلّ المستويات ينطبق عليهم قول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" من أنّ المستبدّين جبناء بل أكثر الناس جبناً، لأنّ خوفهم على عروشهم يدفعهم الى الاستبداد والبطش بالآخرين خوفاً من أن يثوروا على هذه العروش.
ولذلك، يقول متابعون لمجريات الاستحقاق النيابي، إنّ بين المرشحين للانتخابات، أفراداً أو جماعات، ممّن يمارسون الاستبداد ضد آخرين مرشّحين او ناخبين، فهم مهجوسون وخائفون من الفشل امام منافسيهم ولا يتوانون عن ممارسة صرف النفوذ في كل مكان داخل الادارات العامة وخارجها وعلى مستوى التعاطي مع القواعد الشعبية المؤيدة لهم او المعارضة، وذلك على قاعدة اكتساح منافسيهم حتى ولو كلف الامر الغاء هؤلاء وشطبَهم من الحياة السياسية في بلد نظامُه جمهوري ديموقراطي برلماني لطالما تباهى به اللبنانيون امام العرب والعالم على مرّ السنين منذ استقلالهم عن الانتداب الفرنسي عام 1943.
مشهدية "المهجوسية" هذه التي يعيشها بعض الأفرقاء السياسيين إزاء الانتخابات، لا تقتصر فصولها على محاولات إلغاء الخصوم فقط، بل تتعدّاها الى "حرب إلغاء" صامتة أو "ناعمة" تدور حتى الآن داخل صفوف هذا الفريق او ذاك، ويشكّل "الصوت التفضيلي" الهاجسَ الاكبر لهم لأنّ الجميع يَنشدون الحصول عليه حتى يضمنَ كلّ منهم فوزَه، والحسابات التي يجريها ابناء اللائحة الواحدة او الفريق الواحد تشير الى انّ "قتلى" بالمعنى السياسي والانتخابي سيَسقطون من اللائحة الواحدة بضربات "الصوت التفضيلي" الذي سيحاول البعض، وخصوصاً رؤساء اللوائح والمرشحين الكبار فيها، التفرّد به لضمان فوزهم قبل الآخرين. وحتى الآن لم يتمكّن ايّ فريق من وضعِ آلية تنظيمية وإدارية في ماكينته الانتخابية لتنظيم الاقتراع بالصوت التفضيلي لتحقيق فوز أكبر عددٍ ممكن من المرشحين في اللائحة.
ولذلك فالجميع في بعض اللوائح خائفون ومهجوسون من رؤسائها الى آخر المرشحين فيها، وما يَزيد من مخاوفهم وهواجسهم انّ ماكيناتهم الانتخابية لا تستطيع ضمانَ تصويت جميع الناخبين الذين سيُنقلون الى مراكز الاقتراع للوائحهم التي ارشدتهم اليها، لأنّهم عندما سيدخلون الى هذا المركز او ذاك قد يتفلّتون من ايّ ضغط او من ايّ ترهيب او ترغيب، ويُسقِطون في صندوق الاقتراع اللوائح التي سيختارونها بحرّية خلف الستارة وبعيداً من عيون "المراقبين" بعد ان يكونوا قد تسلّموا من رئيس المركز اوراق الاقتراع التي طبعت وزارة الداخلية عليها لوائح المرشحين بالصوَر والأسماء وحدّدت عليها الارشادات الى طريقة التصويت.
ولذلك ليس مستغرَباً ما يقال من أنّ الانتخابات ستشهد مفاجآت، وليس مستغرباً في الوقت نفسه ما يقال من انّ البعض بدأ يمارس الرشوة الانتخابية من الآن، خصوصاً أنّ هناك ناخبين في بعض المناطق والبيئات يقولون علناً إنّهم يرغبون بالحصول على بدلٍ مادّي مقابل تصويتهم لمن يرغب من اللوائح، ويقال إنّ هناك من بدأ يحدّد اسعاراً للأصوات، ولا سيّما منها "الصوت التفضيلي"، لكنْ أيّ شيء رسمي لم يُضبَط بعد في هذا الصدد.
والمشكلة مع قانون الانتخاب الجديد القائم على اساس النظام النسبي، على ما يقول متابعون للاستحقاق النيابي، هي أنّ الذين قبلوا بهذا القانون على مضض أو مُكرَهين، يحاولون حرفَه عن مواضعه أوالتلاعب عليه ليصبح قانوناً انتخابياً أكثرياً كالقانون السابق، اي قانون الستّين. فلقد أريدَ من النظام النسبي ضمانُ تمثيلِ كلّ شرائح المجتمع وقواه السياسية وطوائفه ومذاهبه في الندوة النيابية تمثيلاً عادلاً وشاملاً يَنال فيه كلّ فريق حقّه وحجمه، ولكن ثمّة احتيالات كثيرة بل ألاعيب مورسَت ولا تزال تمارَس منذ ايام صوغ القانون وإلى الآن لجعلِه نظاماً اكثرياً مقنّعا بنسبية صوريّة، وخيرُ مثال على ذلك "الصوت التفضيلي" و"الحاصل الانتخابي" اللذين اجترَحهما البعض في اللحظات الاخيرة قبل صدور القانون اعتقاداً من هؤلاء انّ في ذلك ما يَضمن فوزَهم في الانتخابات، ولكن كِلا هذين "الاجتراحين"، إذا جاز التعبير، يذكّر، ليس بالنظام الاكثري فقط، بل بمشروع قانون الانتخاب الذي صاغه اللقاء الارثوذكسي والقاضي بأن تنتخبَ كلّ طائفة وكل مذهب نوابه.
ولذلك ليس هناك من يضمن مع القانون الحالي أنّ الناخبين سيوزّعون اصواتَهم التفضيلية وطنياً بين المرشّحين على اللائحة الواحدة، وإنّما المرجّح انّ تصويتهم سيكون طائفياً ومذهبياً، بحيث انّ ناخبي هذه الطائفة او تلك وهذا المذهب او ذاك، سيُدلي كلٌّ منهم بصوته التفضيلي للمرشح او للمرشحين من طائفته ومذهبه، ما سيفقِد النظام النسبي معناه وجدواه، ويكرّس الطائفية والمذهبية اكثر فأكثر، ويمنع مجدداً ايّ بحثٍ في إلغاء الطائفية السياسية من خلال استكمال تنفيذ اتفاق الطائف الذي ينادي به الجميع دوماً، وتبقى نداءاتهم صوتاً وصدى، فيما والبلد يوغِل في الطائفية اكثر ممّا كان عليه قبل "اتّفاق الطائف".
فكيف يمكن اللبنانيين أن يحلموا بالخروج من الطائفية في الوقت الذي يتعرّضون يومياً للشحن والحقن الطائفي على يد نوّاب ومرشّحين وجَدوا ضالتَهم في التحريض الطائفي سبيلاً للفوز بمقعد نيابي لم يُغنِ المواطن اللبناني يوماً عن جوع.
حتى إنّ هؤلاء المرشحين، وخصوصاً بعض أصحاب النفوذ منهم، يَنبرون الى إلغاء مَن هم مِن بني جلدتِهم لإقصائهم عن الندوة النيابية نتيجة نهمِهم وشراهتِهم وحبّهم للسلطة، فهَمُّهم الكراسي حتى ولو كانت على حساب كرامات الناس، لا بل على حساب مَن مدّوا لهم يد الوفاقِ والعون دوماً بلا مقابل.
ويُخطئ من يظنّ أنّ الانتخابات المقبلة ستكون بالنزاهة والشفافية المتوخّاة، فكثيرون من الآن يتوقّعون أنّها ستشهد أعلى نسبةً في الطعون أمام المجلس الدستوري، أللهمّ إلّا إذا جَرت محاولات لتعطيل عملِ هذا المجلس الذي لطالما عانى مِن تدخّلات سياسية مِن هنا وهناك.